حملت بعض الصحف مؤخراً أخباراً نسبت إلى أوساط حضرت الاجتماع الأخير لوزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي الذي عقد يوم الثلاثاء الماضي الموافق للرابع عشر من ديسمبر، أن وزير الخارجية البريطاني قد أجهض دعوة ألمانية لوضع جدول زمني محدد للتوصل إلى اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين خلال عام واحد، يتم خلاله إنجاز المفاوضات وتجميد بناء المستوطنات، وإلا فإن دول الاتحاد يمكنها الاعتراف المباشر بدولة فلسطينية على كامل الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل منذ عام 1967. وقد سبق هذا الاجتماع بيوم واحد، إصدار بيان مشترك من قبل عدد من الزعماء الأوروبيين السابقين يحثون فيه وزراء الخارجية الأوروبيين على فرض عقوبات اقتصادية بحق إسرائيل بسبب مواصلتها بناء المستوطنات في الضفة الغربية وفي مدينة القدس العربية. وتقول هذه المصادر إن دول الاتحاد الأوروبي قد تعرضت لضغوط قوية من قبل كل من إسرائيل والولايات المتحدة لمنع هذه الدول من إصدار مثل هذا الإعلان. ويستغرب المرء كيف يمكن لشخصية بارزة مثل وزير الخارجية البريطاني أن يكون جسراً تعبر من خلاله هذه الضغوط على المجلس الوزاري الأوروبي. ويعرف من تاريخ هذا الرجل منذ وصوله إلى منصبه أنه سعى بشكل حثيث كي يضغط على إسرائيل كي تواصل تجميد البناء في المستوطنات. إلا أن وزير الخارجية الإسرائيلي رفض استقباله واستقبال عدد من الوزراء الأوروبيين الآخرين في سبتمبر الماضي، حيث صادف موعد الزيارة وقت انتهاء التجميد الاستيطاني. وبدلاً من أن يعارض الوزير "هيج" هذه الضغوط المفروضة عليه، أذعن لها وأصبح سفيراً يحمل همومها إلى الاجتماع الوزاري الأوروبي. والحقيقة أن بريطانيا تحمل وزراً تاريخيّاً عظيماً تجاه الفلسطينيين، وهي مسؤولة عن وعد بلفور وعن تسليم السلطة للإسرائيليين عشية انتهاء انتدابها في فلسطين عام 1948. وحتى لو أزحنا جانباً هذا البعد الأخلاقي والمعنوي في السياسة الخارجية البريطانية، فإن المصالح البريطانية كانت مرتبطة تاريخيّاً بالعالم العربي أكثر من ارتباطها بإسرائيل. فحجم التبادل التجاري بين إسرائيل وبريطانيا لا يتعدى ملياري جنيه إسترليني في السنة، أو ثلاثة مليارات من الدولارات، بينما يصل حجم التبادل التجاري بين بريطانيا ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وحدها، حوالي 270 مليار دولار أو 137 مليار جنيه إسترليني، كما أن الدول العربية ودول الخليج تعد منفذاً لتوظيف أكثر من 160 ألف مواطن بريطاني. وفي المقابل، فإن هناك الآلاف من الطلاب العرب والخليجيين من الذين يواصلون دراساتهم العليا في الجامعات البريطانية وغيرها من الجامعات الأوروبية. وكل ذلك يعني أن صلات الترابط والمصالح تربط البلدان العربية بشكل وثيق جدّاً مع بريطانيا، ما يعد معه وجود أي رباط أو مصالح بريطانية في إسرائيل أمراً هامشيّاً، مقارنة بروابط المملكة المتحدة مع البلدان العربية. ولذلك فإن إعلان وزراء الاتحاد الأوروبي إدانتهم للاحتلال الإسرائيلي ولاستمرار بناء المستوطنات فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا يعدو أن يكون كما ذكر الساسة الأوروبيون السابقون من أمثال "خافيير سولانا" ورئيس الوزراء السابق "برودي"، أمراً لا يغيّر من واقع الحال، دون أن تكون هناك عقوبات حقيقية بحق الدولة المحتلة، التي تعارض على الدوام قرارات مجلس الأمن، دون أن تجد رادعاً لها من المجموعة الدولية المحبة للسلام، والداعية إليه. وربما يحق لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن يسعد بالإعلان الأخير للمجلس الوزاري الأوروبي لأنه لم يحمّل المسؤولية القانونية والأخلاقية لمن يتجاهل القانون الدولي، بل ويكسر قواعده. وعلى رغم أننا نثمن في العالم العربي الدعم المالي الذي تقدمه دول الاتحاد الأوروبي للسلطة الوطنية الفلسطينية منذ إنشائها عام 1994 وحتى الوقت الحاضر، إلا أننا نشعر بأن الوهن الأوروبي والدولي تجاه السياسات الاستعمارية الإسرائيلية لا يزيد المحتل إلا صلفاً واحتقاراً لقواعد القانون الدولي، لأنه يشعر بأنه فوق هذا القانون وقادر على انتهاكه بكل يسر وسهولة، طالما وجد من يتحدث باسمه داخل تلك المحافل، ويجهض أية قرارات ذات أسنان يمكنها أن تجعل المحتل يعيد حساباته. والسياسة الدولية لا تلين الجانب للمسائل الأخلاقية ولكنها تخضع وتستكين للضغوط وإرادة أصحاب النفوذ. وحين نرى الوضع الحالي، فإن حكومة نتنياهو الحالية لا تأبه للضغوط، بل تدوس على الأيدي التي تقدم لها العون والمساعدة. وهذه الحقيقة يبدو أنها لا تصل بسهولة إلى أصحاب القرار في العواصم العالمية، على رغم أن أصحاب الرأي -والشعوب- بدأوا يضجرون من السياسات الاستعمارية والاستعلائية الإسرائيلية، ويرون أن هذه السياسات تؤثر سلباً في صورة بلادهم بالخارج، بل وتعرض المصالح القومية لبلدانهم لكثير من الأذى. ولنا أن نحترم أولئك الأحرار ممن يضغطون باتجاه محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين وتقديمهم للمحاكمة أمام المحاكم الأوروبية. كما يحق لنا أن نحترم الأكاديميين والأساتذة في بعض الجامعات البريطانية الذين يدعون إلى مقاطعة الجامعات الإسرائيلية وأساتذتها، بحكم مساندة هؤلاء لسياسة إسرائيل الاستعمارية والتوسعية. ولكن، متى يسمع وزراء خارجية الدول الأوروبية وغيرهم من المسؤولين الغربيين صوت ضمير مواطنيهم، ومتى يحللون بشكل صحيح المصالح القومية لبلدانهم؟ عندها ربما سيتخذون القرار الصحيح والمتفق مع قواعد الشرعية الدولية. فإسرائيل مثلها مثل أي دولة محتلّة لن تتخلى عن شبر واحد من أراضي العرب والفلسطينيين والمقدسات العربية والإسلامية في القدس، دون أن تكون هناك ضغوط حقيقية، وعقوبات تجبر المعتدي على النكوص عن جرائمه.